You are currently viewing فلسفة المشي

فلسفة المشي

من المسلَّم به أن ينظر إلى المشي كوسيلة تنقل من مكان لآخر، وعلى أنه أحد الرياضات التي تعزز الصحة مع ما له خصوصية من بين الرياضات. إلا أن تناول الفلاسفة والتأمل العميق في هذا النشاط البشري القديم المتجدد يجعلنا نعيد النظر إليه بفلسفة جديدة.

أحاول في هذا المقال تبيين حكمة الله في خلق الإنسان واختيار هذه الوسيلة في تنقله، كما أورد باختصار ما ورد وفي ديننا الحنيف وسيرة الرسول r وفي بعض الديانات عن هذه العادة المميزة. كما أتقصى نظرة الفلاسفة، وتأملاتهم وكيف وصفوا علاقتهم بالمشي وأحاول الربط بين المشي والتفكر والتأمل والإبداع وتحسين جودة الأفكار.

لقد دُعينا للمشي والتأمل في القرآن في الكثير من الآيات التي كررت الربط بين السير في الأرض والتفكر والنظر في أمور الحياة والناس، والتأمل في خلق الله، قال تعالى: )قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( (سورة العنكبوت ٢٠). كما دعينا للسير في الأرض وقراءة كتاب الحياة والتأمل في مآل السابقين، قال تعالى: )قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ ( (سورة الروم 42).

 وورد في السنة النبوية العديد من الآثار منها ما رُوي عن الامام أبوداود وغيره عَنْ بُرَيْدَةَ tعَنِ النَّبِىِّ r قَالَ «بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِى الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». عن أنس بن مالك t أن رسول الله r كان إذا صلى الغداة في سفر مشى” إسناده صحيح. وفي صحيح مسلم عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَنْ تَوَضَّأَ لِلصَّلاَةِ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ مَشَى إِلَى الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ فَصَلاَّهَا مَعَ النَّاسِ أَوْ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ ». وورد عن رسول الله r أنه قال بعد عودته من دعوة أهل الطائف “فلم أفق إلا وأنا بقرن الثعالب” مما قد يستدل منه على عمق التفكير حينها، وتغير نوع الوعي أثناء مشيه وهو مهموم بالدعوة r ، ثم “أفاق” كما لو لم يكن يشعر بنفسه.

وفي معظم الديانات يكون الحج عبارة عن مشوار خاص ومقدس، تتم طقوسه مشيا.  قال تعالى )وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ( (سورة الحج 27) “رجالاً” أي مشاة. وفي المسيحية تقاليد عميقة في القدم في الحج مشياً إلى كانتربري، وروما، والقدس. وفي البوذية الكثير من الطقوس التي تشمل المشي إلى أماكن “مقدسة”. وكثيراً ما يهدف المشي في تلك المعتقدات إلى تكفير الذنوب وشكر الخالق، وطلب الشفاء والوفاء بالنذر، وللتأمل وزيادة الإيمان، ومحاكات رحلة “العودة إلى الجنة” والعودة بالروح إلى ربها خروجاً من عالم الماديات إلى عوالم روحانية.

كما مورس “المشي التأملي” في البوذية بهدف تلبية الاحتياجات الروحية الداخلية، وحل الصراعات مع النفس ومع الآخرين، والبحث عن الصفاء والسلام مع الذات، وبهدف جلب الحكمة والفهم والتنوير.

إن تعب المشي وألمه مرتبط بالتواضع والعدل والشعور بالآخرين، وهذا مطلب ديني ودنيوي، والمشي هو الوسيلة الوحيدة للانتقال من مكان إلى مكان بينما الإنسان ملتصق بالأرض باستمرار، ملتصق بالأصل وبالتراب.  

اطلعت مؤخرا على كتاب بعنوان “المشي وتاريخ الحضارات” لكاتبة التاريخ الأمريكي الحديث ربيكا سولنت، راجَعت فيه تاريخ المشي والتفكر والتأمل في مختلف الحضارات، وتأملَته في حياة العُبّاد والفلاسفة والرحالة والمؤرخين والناشطين السياسيين والقصصيين وربطت بين ممارستهم للمشي وبين ما أنتجوه للحضارة. كما تابعت الكاتبة مكانة المشي في حياة الرسامين الذين أوحى لهم المشي في الطبيعة بالكثير مما حوته لوحاتهم. وذكرَت من أشهر فلاسفة الغرب المشائين؛ سقراط وبلاتو وأرسطو وجون ستيورات ميل وتولستوي وجان جاك روسو.

تقول الكاتبة سولنت: “ألم تر أن التأرجح على قدم أو قدمين نادر بين الحيوانات؟” واستنتجت من ذلك أن “المشي والتفكر متلازمان في حياة الإنسان ككائن مفكر”. بل ذكرت أن “الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمشي على ساقين ورأسه الأبعد ارتفاعا عن الأرض”. وبعد الكثير من التأمل في علاقة الإنسان بالمشي في الطبيعة، قالت سولنت: “لو كان التأمل في الطبيعة ديناً لكان المشي أهم طقوسه”.

وعادةً ما يكون المشي الفردي مرتبطا بالخلوة والتفكر الحر دون توجيه أو مقاطعة، حيث ينتقل الإنسان بطريقة تلقائية من التفكير في موضوع إلى آخر. وكثيراً ما تجنح الأفكار أثناء المشي نحو أفكار تعبِّر في العادة عن اهتمامات الشخص التلقائية وأفكاره الخاصة. وذلك مقارنةً بساعات العمل أوالمنزل أومشاهدة التلفاز، وغيرها من الظروف التي يجد الإنسان فيها نفسه متفاعلاً مع أفكار الآخرين. 

وفي عصرنا الحديث الذي اتصف بالسرعة، نحن بحاجة إلى وسيلة نبطئ بها إيقاع الحياة لنفكر مليا. تقول سولنت: “أنا أحب المشي لأن الانتقال فيه عبر الأماكن انتقال بطيء، واعتقد أن العقل مثل الساقين، يعمل بسرعة 3 أميال في الساعة، أما حياتنا الحديثة فتتحرك بسرعة أكبر من سرعة التفكير والتأمل”. وأقول إن فارق الإيقاعين كبير، ولابد من ممارسة المشي لإبطاء هذا الإيقاع وممارسة المزيد من التأمل.

يقول جان جاك روسو، الفيلسوف الذي غذَّت أفكارُه السياسية الثورة الفرنسية، يقول في كتابه “الاعتراف”: “أستطيع التفكير والتأمل فقط عندما أمشي. وعندما أقف يتوقف ذهني عن التفكير. ذهني يعمل فقط مع ساقي”.  

يتكرر في مشاهد الأفلام أن يظهر الإنسان المشغول بقضية ما، أن يأخذ في التفكير جيئة ورواحا، مما قد يدل على أن المشي يحفز التفكير، ويجلب الحلول والأفكار الإبداعية. يحكى أن الحكومة المصرية انتدبت أحد سياسييها لتوقيع وثيقة مهمة مع بريطانيا. وتم ترتيب مراسم التوقيع على أن يتم على المكتب الذي كان يستخدمه ألبرت أينشتاين. وعندما جلس المنتدب المصري على مكتب أينشتاين شعر بشيء من الرهبة وقال: “ينتابني شعور رهيب وأنا أجلس على المكتب الذي اخترع عليه أينشتاين النظرية النسبية”. فقال له أحد كبار السن من الحاضرين: “يا بني، إن أينشتين عندما استوحى النظرية النسبية لم يكن جالساً على هذا المكتب، إن نظرية النسبية خطرت له وهو يمشي”.

ومن دون المشي والتأمل يكون الإنسان محصوراً في بيئات مغلقة (بيت، مكتب، وسيلة مواصلات،….) وحوله الكثير من الشواغل والملهيات. قارن ذلك بالمشي في خلوة. يقول أ. د. زهير السباعي: “درجت على أن أمشي في المتوسط نحو 45 دقيقة بعد صلاة الفجر. أقسم وقتي أثناء المشي إلى ثلاثة أقسام. قسم أثبت فيه ما أحفظ من القرآن، وقسم للتخطيط لمشروع أقوم به، وقسم لانطلاقة الخيال في أي شيء أو لا شيء”.

أما في الطب فالنشاط الرياضي والمشي يحسن الدورة الدموية ووصول الأكسجين للدماغ ويزيد من إفراز الهرمونات المنشطة والموصلات العصبية، مما يزيد من درجة اليقظة والفعالية الذهنية، وينشط عمليات التفكير، ويخفف التوتر العصبي. وقد ثبت علميا أن بعض المقدرات الذهنية تتحسن مع الانتظام في المشي، منها سرعة الاستجابة العصبية، والمقدرات الحسابية. كما ثبت أن المشي المنتظم يحسن الابتكار ويثري قدرات التخيل، فقد نشرت مجلة الطبيعة “ناتشر” (مارس 2001) دراسة أثبتت أن أداء المنتظمين في المشي أفضل من غيرهم في الاختبارات العقلية. وجاء في الدراسة أن المناطق الأمامية من الدماغ على وجه الخصوص (الناصية) المسئولة عن التفكير المنطقي والتخطيط واتخاذ القرار تتأثر بالانتظام في المشي.

من هنا، علينا أن نعيد النظر في المشي، هذا النشاط الرياضي الذي لا يعزز الصحة واللياقة ويعين على اكتساب الرشاقة فحسب، بل هو فرصة يجب أن تنتظم وتتكرر في حياتنا كفرصة لذكر الله والتفكر والتأمل، ومن أجل الراحة النفسية وحل المشكلات وتطوير أنماط التفكير والإبداع.

ودمتم بخير،،

 د. صالح بن سعد الانصاري

أستاذ مساعد في طب الاسرة والمجتمع

المشرف العام على مركز تعزيز الصحة